• ×

04:36 مساءً , الخميس 25 أبريل 2024

يوسف بن عبدالعزيز المهنا
بواسطة  يوسف بن عبدالعزيز المهنا

الرواية في التاريخ المحلّي بين القبول والرد

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
إن التاريخ المحلّي - المنقول إلينا مشافهة على وجه الخصوص - عرضةٌ للزيادة والنقص, ولا يسلم من شوائب الكذب , والمبالغة ,والتلفيق ,وقلب الحقائق, كغيره من التواريخ الأخرى التي لا تخلو من أساطيرَ مختلقَة ,وأخبار واهية لا خِطام لها ولا زِمام .والأخبار الشفوية دون راوٍ لا قيمة لها ولا اعتبار, فلا صحة لمتنٍ إلا بثبوت إسناده . (ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ) غير أنه من المتعذِّر تطبيق منهج النقد ,وقواعد الجرح والتعديل عند المحدِّثين على جميع الأخبار التاريخية ، فنقد التاريخ المروي بأسانيده أقل احتياطا , وأكثر تساهلا من نقد أسانيد الحديث الشريف . أما ما ليس له رواية ثابتة , ولا مصدر معتبر, ولا إسناد صحيح فلا يلتفت إليه ولا يعول عليه البتَّة
والباحث المنصف هو من يكتب بتروّ وحذرٍ ويمحّص الرواية فيمعن النظر فيها, ويعمل العقل في قبولها أو ردها , بعيدا عن التأثر بعواطف العوام, وأساطيرهم التي تروى في المجالس , ويتسلى بها العامة في نواديهم , وتقُّصها العجائر على أطفالها عند النوم . فهناك فرق بين روايات العوام وأخبار الثّقات . ولاشك أن التحقق من الروايات وتمحيصها مطلب شرعي ومنهج إسلامي يجب على العالم والمتعلم تبنّيه والعمل به . (وكفى بالمرء كذبا أن يحدِّث بكل ماسمع ) .
والقصص التاريخية جُلها لاتصلُح أن تروى فضلا أن تكتب ويسلَّم بها. والملاحظ أنها بعد الانتشار والتلقي تصبح وكأنها من الأمور المسلَم بقطعية ثبوتها فقد يبنى عليها - بعد قبولها واستمرائها وترديدها عند العامة وغيرهم - أمور لا تخلو من محذور شرعي أو اجتماعي, وهي في حقيقة الأمر لايعدو أن تكون (حديث خرافة) لاغير.
ومن أساطير العوام التي تروى : قصة مجيء زيد لشقراء الذي تنسب إليه قبيلة بني زيد في نجد, وملخصها أن زيدا هذا استقر في شقراء بعد رحلة طويلة وسكنها , وتزوج فيها بإحدى بنات أميرها (ابن معيقل) فعلم من شريف مكة أن زيدا هذا مطلوب في دم ,وانه خطير يجب التخلص منه . فأرسل ابن معيقل إلى ابنه يحرِّضه على الفتك به وقتله , فوقعت الرسالة في يد زيد, فطردهم من شقراء إلى القرائن ,وتولى إمارتها واستأثر بها وأبناؤه من بعده .!!! كذا في روايتهم. على اختلاف فيها من ناقل لآخر ؛ وهي قصة واهية , و رواية باطلة لا تصح عقلا ولا تثبت نقلا.

والرد عليها من وجوه :

1-القصة في مجملها واختلاف رواياتها ليس لها مصدر يعوّل عليه سوى الرواية الشفوية فقط . فلم يروي القصة أحد من مؤرخي نجد إطلاقا , ولو صحت لذكرها المؤرخون أو بعضهم ولو تلميحاً .

2-ليس لهذه القصة ما يؤيدها من الوثائق المحليّة , والتقييدات التاريخيّة كتقييدات ابن عيسى أو غيره , ومن لديه نص تاريخي أو وثيقة صريحة أوحتى بيت من الشعر فليظهره !

3-اضطراب الرواية دليل بطلانها وعدم صحتها ؛ فعند بعضهم أن زيدا مر على عجل بن حنيتم أمير بلدة الشعراء وأقام عنده مدة ! وزيد في الثامن على الصحيح وعجل في العاشر . وبنو زيد في تلك الحقبة ثبت أنهم قبيلة وليسوا رجلا واحدا ! أما رواية انتقاله لنجد من جاش وتثليث وتحديدا عند البعض من قرية ( الهجيرة أو الجعيفرة ) مرورا بمكة شرفها الله وبعض بلدان نجد ... ! فهو تخرّص, ورجم بالظّن لا دليل عليه . فالوشم ديارهم منذ الأزل , فيه خلقوا ومنه تفرقوا .

4-هذه الرواية لها أكثر من (700) سبع مئة سنة , فهل يعقل أن تثبت ويتناقلها الرواة منذ القرن الثامن الهجري والى يومنا هذا ؟! أم أنها كرواية العوام لقصة صبيح الاشيقري - رحمه الله - وأنه يُسرى به إلى المسجد الأقصى كلَ ليلة ؟ حاشا وصيته المشهورة سنة 747 هـ فهي ثابتة بسندها ورواتها .

5-المناقب والمفاخر لا تكون بالكذب والروايات العنترية , والبطولات الوهمية وإنما بالحقائق الثابتة , والأخبار الصادقة فقط ؛ فهل يعقل أن زيدا ,وهو في حالة ضعف وقلّة عددٍ يمكنه أن يستولي على بلد كامل ويطرد أهله منه ؟! ثم يتولى إمارته ويستأثر بها دون مقاومة ومدافعة !
الرواية تقول: أن ابن معيقل هو أمير شقراء ؛ والأمير له عشيرة وأتباع وأبناء وحاشية فأين هم ؟ وهل يعقل أن يأتي " مجرم عليه دم ومطلوب للعدالة " كما يقوله بعضهم, ثم بقدرة قادر يكون أميرا لشقراء ؟!

6-لا ندّعي العصمة لأحد لا لزيد ولا لغيره, ولكن من الإجحاف والتجنّي أن يوصف جد هذه القبيلة العريقة ذات المجد المؤثّل ,والشرف الموروث من خلال قصة ملفقة ,وخبر مصنوع بأنه مجرم سفك الدم الحرام في البلد الحرام وخرج منها - أي مكة شرفها الله - واستقر في شقراء ,وكوّن أسرته بعد أن تزوج أبنت أميرها حتى أذا أشتد عوده وتمكن فيها ؛ انقلب عليه واغتصب إمارتها منه ؟! ...الخ من الأباطيل التي لا يصدقها عاقل ؟

7-أن يُتَهم ابن معيقل بالتحريض على القتل ,والمبادرة لتصفية زيد صهره - زوج ابنته - ويسلَم بذلك من خلال قصّة يرويها العوام لا أصل لها ولا دليل عليها ؛ فيه اتهام للرجل بأنه لم يرع ميثاقا ولم يحفظ حرمة ؛ والحقيقة أنها تهمة في قصة لا تثبت , وإنما هي ضرب من الإفك وحديث مفترى. فكيف تقبل ويسلّم بها ؟! وما بني على باطل فهو باطل .

8-آل معيقل أسرة شهيرة المآثر, ودوحة كريمة الأصل, لهم من المناقب والفضائل ما لا يخفى ,وهم من أهل الوشم القدامى ,ولهم مع بني زيد أواصر رحم في القديم والحديث , ولن يؤثر فيهم رواية باطلة أو قصة مختلقة .

9- قبول العوام وتلقيهم لمثل هذه الأساطير لا يستغرب ؛ لكن يجب أن لا تنطلي على المتعلم والقارئ المنصف, فضلا عن (العالم والمثقف) ؛ لأنه إذا تبناها من يدعي معرفة التاريخ والأنساب وجزم بها؛ وهي كذب أو غير ثابتة في أقل أحوالها , فإنه يدل على ضحالة في العلم , وعدم تثبت في النقل , وجهل بالمنهج الصحيح للتأليف , وفي تدوينها ضرر, وفتنة ,وترويج للكذب, والأساطير المختلقة ,والقصص الواهية التي توغر الصدور, وتورّث العداوات ,وتزرع الفرقة والشحناء ليس إلا !

10-وفي تبنّي هذه القصة , وتصديقها (وتدوينها) اتهام بالغدر والقتل, واغتصاب الحقوق ,والتعدي على الحرمات ...الخ لأناس قد ماتوا وقدموا إلى ما قدموا ؛ فما الداعي لتأكيد اتهامهم بذلك ؟ ولمَ التجّني عليهم ؟ وما الفائدة منه ؟ فلا أشدّ أن يرمى المؤمن بذنب لم يرتكبه, أو يجرّم وهو بريء . والمسلم مأمور بأن يذُبَ عن أعراض البُعَداء , فكيف عن عرض أبيه وجده ؟!

أتمنى أن يعيد النظر كل من كتب هذه القصّة مسلّما بها جازما بصحتها ,وأن يتبيّن الحق في ذلك عملا بقوله تعالى: ( فتبينوا) , ولا يأخذ بالظن , ويقطع بكلام لم يرزق حظّه من التثبت ,ولم يُملِه علمٌ صحيحٌ ؛ ولا بحثٌ دقيق , وإنما هو ضربٌ من التخرّص والمَين وأراجيف الغواة , فيجب نسيانها ودفنها ,وأن تكون من الأخبار التي تطوى عن الأسماع ؛ فلا يتحرك بها لسان ولا تختلج بها شفة . إبراء للذمة , وتحفظا عن العضيهة . عصمنا الله من حصائد الألسُن , وسقطاتِ الأقلام . والله اعلم .


 4  0  8.0K


الترتيب بـ

الأحدث

الأقدم

الملائم

  • ثاقب الثاقب

    اوافقك الرأي

    أساطيرَ مختلقَة وأخبار واهية .

    20-05-2015 11:31 صباحًا

  • أبو عبدالله

    وفق كاتب المقال في طرحه فما كتبه هو ما كنا نردده منذ فترة بأن هذه الأساطير لا مجال لصحتها ولا تعدو كونها خرافات تطورت مع تواترها لتصبح لدى البعض ( والمشكلة أنهم يحسبون من المثقفين ) من المسلمات .

    20-05-2015 01:47 مساءً

  • عبدالعزيز ابراهيم

    هذه المقالة لها ما بعدها
    فهي تهدم ما ألفه عبدالرحمن بن شقير
    في كتابه (قبيلة بني زيد القبيلة القضاعية في نجد )
    وتبني وتدعم ما ألفه محمد بن سعد الحصان في كتابه :
    ( قبيلة بني زيد في نجد في وثائق وحقائق )
    مقالة بالتجاه الصحيح ليرد لقبيلة بني زيد نسبها التميمي
    تحياتي للباحث يوسف المهنا

    03-06-2015 06:20 مساءً

  • نايف

    راي شخصي لا يتفق مع اهمية الرواية في حفظ الموروث الثقافي والتاريخي ومن يريد المزيد عن اهمية الرواية فعليه الاطلاع على مقالات علمية تبين اهمية الرواية وانها من ادوات البحث العلمي

    03-06-2015 11:40 مساءً

جديد المقالات

بواسطة : عبدالعزيز عبدالله البريثن

. آه .. ويح من فقد أمه، ولم يقبلها في ضحاه، أو...


بواسطة : سعد بن فهد السنيدي

. (الوجهاء والأعيان) مصطلح شائع تتداوله الألسن...