• ×

06:14 صباحًا , الأربعاء 24 أبريل 2024

عبدالله بن عبدالعزيز الصالح
بواسطة  عبدالله بن عبدالعزيز الصالح

إليها ....؟

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

الإهداء :
إليها خلف فاصلة الوجع ... وإليه عندما عض لسانه قبل أن يصرخ: ((إني على ما أحتسي صبار))




ألئن سألتكِ؛ يستفيق حوار=وتفيض بعد نضوبها الآبار
ويتيه وجهي؛ مثقلا بغنائه=قسماته الإقبال والإدبار
أم أن للصمت الكئيب حكايةً=إذ قيدها تعنو له الأسوار
لا ماء في الصمت الشجيّ مداره=إن ظل في همس الشجون مدار
لا عطر في العرس الشهي أواره =إن بات في شجن السؤال أوار
تتأوه الحسرات ؛ إن أسرجتها=لمباهجي، ويلفني استنكار
وتمور بي أحزان وجهكِ؛ إن شكت=ماء الجفاء وزال عنها وقار
كيف استفاق الهم في قسماتها=حين استطاب لبوحها استعبار
قولي بربّك ؛ كيف أشرعك المدى=لشجونه، ومضت بك الأدوار
قولي هل الأشجان فيك تطاولت=وغفا على شفة الصهيل خوار
قولي هل الشهقات فيك ترنحت=ونمت على وجه الربيع قفار
قد كان عطرك ضالعاً في ورده=حتى اعترته من الأسى أوزار
كم هفوة آثرتها بغوايتي=تغتالني؛ ويعافني الإيثار
عهدي بنهرك ؛ إن تراقص فيضه=رقصت على جنباته الأزهار
أزهار روحك لم تزل يسري بها=شلال وجد، بوحه أنهار
أنهار إيقاع الجنون بغربتي=قد ضاع فيها الصوت والأوتار
تحتد في التوشيح كل مواجعي=حتى استوى الإيقاع والقيثار
إني أثوب ، وقد تناثر في دمي =ما ليس منه إلى الجنون فرار
حتى إذا شاخ الصهيل ومسني=في غربتي التسطيح والتكرار
أشعلت في ليلي مرايا غربةٍ=يغفو على جمراتها استغفار
وبقيت منتبذا شظايا عزلتي=إني إلى من أنتمي أختار
قد أبلست كل المواسم، واحتفت=بهطولها بعد الصدى الأمطار
لكن لي في الصمت حكمة شاعر=تندى على عتباتها الأسرار
هل يصلح الظن الجميل مواسمي=إذ قد يجود بطبه العطار
وهوت على أشلاء روحي قصة=لم يسر فيها دمعك الهدار
سفر الفجيعة في بقايا غبطتي=تجثو على نبضاته الأحجار
مدت إليه السافيات حكاية =صفحاتها الإيمان والإصرار
يا دوحة العشق البهي ، تباركت=فيك الثمار، وغنت الأشجار
بيني وبينك من كتاب مودتي =عشق... وفي نزواته أوطار
لم يبق فيه غير ذكرى هاجس =ترفو بقايا لونه الأعمار
قدي قيمصي من مرايا عفةٍ=لها نشوة ، كرمت بها الأبصار
واستنفري نبض المودة في دمي=إن المحبة عشقها استنفار
ها أنت في جسد القصائد غبطة=تهفو إلى قسماتها الأشعار
لهفي على همس الحقول إذا بدا=في ناظريك الصارم البتار
كان الغناءُ نهارها، حتى إذا=غفتِ المواسم، شاخ فيه نهار
واستحضرت في الظن عطر صبابتي=إن الصبابة عطرها استحضار
أنِسَتْ بليلِ الغافياتِ على يدي=وأفاقَ في الظنِّ النبيل شعار




فرانكفورت 29/12/2011 م


 18  0  6.6K


الترتيب بـ

الأحدث

الأقدم

الملائم

  • احمد

    لاعجب لاعجب لاعجب
    ان يخرج من عمق فؤاد صديقي عبدالله الصالح هذا الفيضان والتسونامي الرائع من المشاعر
    ومكان مثل هذا الفيضان _ مع احترامي لصحيفة شفراء_ يفترض ان يحفر في العديد من المواقع والمنتديات الادبية
    هنيئا لصحيفة شقراء بك يا ابا عبدالعزيز

    اما تعليقي على ما كتبت (( فاسمح لي)) لا استطيع مهما حاولت ان افكر في مجرد التعليق
    ما بعدك تعليق يا صديقي دعنا نبحر في تغريدك حتى نغرق تحت الماء على راي عبدالحليم

    وسامجنا عن القصور

    وشفا الله ابنك احمد

    19-02-2012 05:23 مساءً

  • فهد

    سبحان من أعطاك درا فريدا من الكلم
    وايم الله ان نصك هذا قطة من قلب عنترة والاعشى
    بارك الله في قلمك ولب عقلك

    19-02-2012 05:37 مساءً

  • فهد

    سبحان من أعطاك درا فريدا من الكلم
    وايم الله ان نصك هذا قطة من قلب عنترة والاعشى
    بارك الله في قلمك ولب عقلك

    19-02-2012 05:37 مساءً

  • راعي شعيله

    شكرأ شقراء الألكترونيه لإن
    الشعر أنشودة الفنان يرسلها == الى القلوب فتحيا بعد إقفاري
    ولجلال الدين الرومي رأي يقول:
    وترى الكريم لمن يعاشر منصفا == وترى اللئيم مجانب الإنصاف
    منصف كعادتك مبدع في قولك
    ولرائعتك !! أردد قول الشافعي
    إقبل معاذير من بأتيك مغتذرا == إن بر عندك فيما قال إوفجرا
    لقد أطاعك من يرضيك ظاهره == وقد أجلك من يعصيك مستترا

    19-02-2012 10:36 مساءً

  • Mohammed

    A beautiful poem

    20-02-2012 03:06 صباحًا

  • المتنبي

    من روائع الشعر وتكتب بماء الذهب انت متنبي زمانك

    20-02-2012 10:33 صباحًا

  • ام الشيوخ

    مااجمل الوفاء حين يترجم بابيات بل قصيده تجسدمعاني الشوق والخلجات النفسيه المبهره والعتاب والشره المغلف بالحب الذى يغمربها رفيقة الدرب بصنوف متعدده من العواطف المفعمه التى تبعث في النفس شعورالايوصف فحروفي تقف خجلى امام تلك الدرر واللالئ المتناثره من الحس الرقيق0 القصيده تفيض بالاحساس وتدمع الحجر واجمل مافيها روعة الحب الذى يتضح من وصولك لمرحلة الجنون وكيف ترجمت ذلك في الاحاسيس بفنون متعدده وفقك الله ام تركى

    20-02-2012 12:12 مساءً

  • ناصر عبد الله الحميضي

    يقول الشاعر :

    عش ألف عام للوفاء و قلما ساد امرؤ إلا بحفظ

    ويقول الآخر


    و جربنا و جرب أولــونا فلا شيء أعز من الوفاء



    *************



    جميل ما خطه قلمك ، وما حوته حروفك ، وما جادت به المضامين
    الوفاء من طبع النبلاء ء وسمة من سمات الأوفياء
    كل التقدير لك

    20-02-2012 06:54 مساءً

  • المهاجر

    ألئن سألتكِ؛ يستفيق حوار وتفيض بعد نضوبها الآبار

    لا فض فوك أبا عبد العزيز إبداع أيما إبداع مع ملاحظة تدفق قريحتك الشعرية ومفاجأتنا بالجديد المميز من وحي الغربة،،، هل لما قرأناه في صفوف الدراسة عن شعراء المهجر أثره في ثوران قريحتك أم أن تأثير البعد عن الوطن والأهل والأحباب العامل الكبير في مولد مثل هذه القصائد العظيمة.
    شكرا لك أباعبد العزيز على هذا النجاح المتوالي وهذا الإثراء الشعري
    محبك

    20-02-2012 09:41 مساءً

  • أبو ريان

    حقا كلمات من الأعماق ،، لا أعرف ماذا أقول وبماذا أتحدث ،،
    فلا أملك إلا الإعجاب والتقدير لك يا أستاذي الغالي ،،،،،



    يا دوحة العشق البهي ، تباركت فيك الثمار، وغنت الأشجار

    فطوبى لمن أهديت إليها هذه الأبيات الجميلة التي كانت في منتهى الحنان .. والعاطفة والمشاعر الدافئة ...

    يا ليت من أحبها تمر على حديقة شعرك .. فأهديها من ورود الأبيات

    تقبل مروري يا أستاذي الغالي ،،،،

    محبك دوما وأبدا ... تلميذك

    20-02-2012 10:20 مساءً

  • ابو محمد

    الرائع دوما والظاهره الشعريه اللتي لن تتكرر الغالي ابو عبدالعزيز : لافض فوك وبالعاميه صح لسانك يا امبراطور الشعر وفارسه قصيده رائعه من اجمل ماقرات وسمعت وليس بغريب هذا الابداع اذا ماعلمنا ان هذا النص الجميل قد كتبته أنامل شاعرنا الكبير عبدالله الصالح ،،،،،،،،،،، قصيده لا تحتاج الى قراءة فحسب بل تحتاج الى إبحار استاذ ابو عبدالعزيز انت تنحت في صخر وتغرف من بحر قصيده تستحق ان تكتب بماء الذهب محبكم ابو محمد

    21-02-2012 01:58 مساءً

  • vip

    {الأبيض والأسود في شعر عبدالله الصالح / قراءة نقدية }
    بقلم :الأستاذ الدكتور محمد محمود رحومة { أستاذ النقد والنظرية بجامعة القاهرة }





    ************************************************** ***************




    هذا شاعر من الشعراء الشبان في المملكة العربية السعودية، يبحث عن الحزن ويسعد به ويدعو إليه، يمارس التجريب في الكتابة بوعي ولذة غريبة، نصه مكتظ بالرؤى متخم بالصور، يرسم لوحاته الشعرية من لونين فقط هما الأبيض والأسود، وهو شديد الوعي باللحظة الشعرية، متعقل إلى حد كبير هو شاعر يخطو بخوف ووجل، تجذبه جنية الشعر، فيدخل ويوغل في الدخول، ويشده الواقع بتناقضاته فيركض هارباً يبحث عن الانعتاق من أسر الشعر والخلاص منه، ومن هنا نجد هذا التناقض الظاهري الذي قد يلحظه القارئ للشعر لأول وهلة.
    يخونه الشعر أحياناً ويدخل به إلى متاهات الأحزان وآلام المعرفة، فيكتوي بالكشف ويعاني الحقيقة تتجهم الحياة أمامه ويعجز شعره عن ملاحقة ضجيجها، فالكلمة الحلم ما تزال بعيدة عن احتضان الواقع الكابي، وهكذا يعيش الشاعر بين عالمين: عالم الشعر النبيل والحلم التواق إلى المستحيل وعالم الواقع المرير والاحباطات التي تواجه المثقف الواعي مما يجهض آماله.
    يعود بنا الشاعر إلى البكارة القديمة، إلى عصر مضى، فهو يرى العالم من خلال لونين فقط هما الأبيض والأسود ولكنه يتمكن من تعرية الواقع... إن الألوان المتعددة قد تكشف ثراء التجربة الفنية وجوانبها المتشابكة وهي قد لا تتوفر في هذه النصوص، ولكن الأبيض والأسود يعكسان لدى الفنان / الشاعر كل هذه العناصر، بل يصبحان ألوانا مشعة غنية يشكل بهما الشاعر عالمه.
    وبهذا فإن فكرة الشاعر عن الحياة ما تزال على عهدها القديم: البكارة والبساطة والوضوح، وهو يتمكن من رصد أبعاد الصورة من خلال هذه الرؤية البيضاء، ولا توجد منطقة وسطى بين اللونين وهذا يعذب الشاعر كثيراً لأن عينه لم تر سوى اللونين فقط، لم يعرف اللون الرمادي الذي يأخذ من كل لون قدراً معيناً من الرؤية ولذلك فان الشاعر يرى المعنى وضده في آن واحد.
    ويعاني الشاعر في رأينا، من خلال هذه القراءة على مستويين: الهم الجماعي كمثقف واع يشعر بدوره ويسعى إلى تأكيد هذا الدور ولكنه يصطدم بالواقع ويكون هروبه إلى الكلمة: تبوح له بسرها، يحقق أمجاده من خلالها ويصنع أحلاماً تظل بعيدة عن الواقع وهذا يعكس أحزانه الرقيقة التي يجدل منها رؤيته الشعرية.
    ويعاني الشاعر على مستوى آخر من جدب الكلمة، فهي أحياناً تخونه ولا يكاد يعثر على ضالته، قد لا ترضيه أو تعجز عن اللحاق به، وقد تهجره طويلاً ثم يعثر عليها فجأة ويمسك بتلابيبها ولكنها تنفلت من بين يديه، إنه صراع الفنان مع الكلمة، خاصة وأن الشاعر مقل في شعره إلى حد كبير، عازف عن نشر ديوانه واجمالاً فان رحلته مع الكلمة تكمن في كلمة واحدة: الرهبة والخوف ويترجم الأبيض والأسود ظلال هذه المعركة على مستوييها: مع الواقع ومع الكلمة.
    وعلى المستوى الأول، صراع الشاعر على المعنى ومعركته مع الكلمة تمثلها بعض القصائد منها: {نبض هارب من هشيم القصيدة }حيث يقول في أولها:
    {تجيئين من شرفات الغياب
    صهيلاً بلا ذاكرة!
    فأحمل وجهي قافلة من ضياع،
    واحثو التراب على هيئتي
    المستحمة بالرعب
    والمقت
    والرغبة المطفأة!!
    أتشتعل الكلمات براري من ظمأ في دمي،
    فتسرقني من طيور الأسى،
    ومن حمحمات البكاء،
    وتدخلني في ضجيج الحقول؟!}
    هي الكلمة، ينتظرها الشاعر، ويتلهف على لقائها، نعم تأتي، ولكنها,, صهيلا بلا ذاكرة معنى ضبابي يتشكل في بطء، يعتصر من دمه لتدب الحياة في أطراف الكلمة التي تأتيه جثة هامدة: بلا ذاكرة!!، فالشاعر ذاكرة الكلمات ونبض الحياة وسر الكون ينفثه فيها فيستحيل المعنى الشارد التائه إلى واقع ملموس يسعد به الشاعر، وهذه الرحلة المضنية التي يقطعها الشاعر بحثاً عن المعنى يعبر عنها بقوله {فأحمل وجهي قافلة من ضياع/ وأحثو التراب على هيئتي المستحمة بالرعب والمقت والرغبة المطفأة}.... وهو يغوص في التراب بحثاً عن المستحيل، ينغرس في الواقع،يتجذر في الأرض بدلاً من الهيمان في فضاء الكون اللامحدود, هو يريدالواقع والواقع لا يعطيه نفسه، هو يدفع الثمن من أجل استنزال المعنى ولكنه يهرب منه، فالواقع التراب الرعب المقت، لا يكفي لصنع رغبة حقيقية أو اشتعال يكفي للحظة الشعرية, الرغبة موجودة ولكنها فاقدة للمعنى، مطفأة!!.
    وتأتي اللازمة الخاصة بالشاعر، والتي تتكرر تقريباً في كل قصائده، حيث يقوّم اللقطة الشعرية ثم يعقب عليها، وكأنه يبحث عن تبرير لها,إنها الرؤية والظل، الأبيض والأسود، الصوت والصدى,.
    يقول باحثاً عن العلة متسائلاً، حائراً، ملفعاً بالسواد {أتشتعل الكلمات براري من ظمأ في دمي/ فتسرقني من طيور الأسى/ ومن حمحمات البكاء وتدخلني في ضجيج الحقول؟!} هل يريد أن يبرر جريمته في حق نفسه وفي حق الكلمة التي خانته؟! هل يريد القول إن الواقع المتجهم لا يخلق شاعراً حقيقياً؟ هل يعاني الشاعر أزمة خانقة تهدد حرفه الخافت الذي يكاد يخرج على استحياء وهو يطالب, بالقوة وبالبزوغ والانتشاء؟! يجوز أن تجتمع كل هذه المعاني معاً لتلقي الضوء على هذا الصدى الأسود لكلماته في الجزء الأول من المقطع السابق,, الصدى يقول: لا يمكن أن تشتعل جذوة الشعر من الظمأ,, انه ما يزال منكفئاً بين طيور الأمس وأصوات البكاء، لا يجرؤ ان يدخل معترك الحياة، منبع الكلمة، نبضها الأثير، سيظل بعيداً عن ضجيج الحقول,, صانعة الألق ويسكن منكفئاً على ذاته في مقبرة أحلامه، رافضاً الحياة، إن المساحة السوداء في المقطع السابق تصارع المساحة البيضاء، والأسود هو السيد، يتكرر هذا في المقطع الثاني من نفس القصيدة:
    {ومن شرفات المجيء
    وفوق صليل الحصى
    بذر الندى ما تبقى على النبع من مائجات الرماد
    ومن عطش في الذهول!
    فأيقظ سجاياك/ أيقظ سجاياك
    أيقظ مراياك
    يا شاخصاً في خيوط الرماد
    وأشعل بها من فجاءة لونك
    ما لا يقال!!}
    ويمثل الجزء الثاني من المقطع الثاني نصاً آخر، إنه الصدى حيث يقول:
    {على أي لون ستفضي إلى هدأة في هزيع المواسم؟
    هل الروح برزخها في الجهات
    أم النبض تمثل فيه الغواية منذ التشظي
    وحتى انهيار الكلام؟!}
    تلعب الشرفات دورها في هذا المقطع أيضاً، والشرفة هي الرؤية وأداتها، إنها طاقة الاستطلاع وأول الحضور، وهي بوابة القادم, الشاعر يفتح أشرعته لاستقبال الكلمة التي تتأبى عليه هو يحاول المستحيل، فيقترب منها، ينقشها فوق الورق ولكن...{ يذر الندى ما تبقى على النبع من مائجات الرماد}, لقد هربت منه إذن، ضاعت معالمها, والندى تلك القطرات الرقيقة تآمرت عليه، ضيعت نقوشه الرمادية!! وقد نسأل لماذا هذا العداء للندى الذي محا كلمات الشاعر ويأتي الجواب في ظننا،أنه نوع من الماء المخادع، هو ماء ولكنه لا يروي عطشاً,, ماء لا يعمل، لا وظيفة له,, ومن عطش في الذهول ، لذلك يعود الشاعر إلى المباشرة واأفعال الأمر كي ينقذ نفسه وكلماته، إنه يستحضر ذاته بعد أن كادت تتلاشى مع كلماته التي ضاعت {أيقظ أيقظ,, أيقظ,, يا ,, أشعل} إن الخيوط رمادية لا تعطي لون الحياة الأبيض أو الأسود، وهو ينحاز إلى هذين اللونين، والرمادي هنا من الحركة ، ضد الحياة، ضد الألقإ نه لون محايد,, عديم الشخصية,, هو يبحث إذن عن اللون المؤثر، الفاعل، ذلك اللون الذي يصنع الاشتعال ويفتح الشرفات للمعنى القادم من بعيد{ أشعل بها فجاءة لونك / ما لا يقال} لقد قيل ما قيل، هويبحث عن المعنىالذي لم يسبقه أحد إليه, رحلة الشاعر مع الكلمة مستمرة ومعاناته المريرة تأخذ منه قصيدته.
    وكطريقة الشاعر يختم المقطع الثاني بالصدى الذي يتردد محاولاً تفسير حيرته، والبحث عن يقين الصدى يمثل هنا الرد على الصوت العالي في القصيدة، إنه صوت آخر للشاعر في داخله يعذبه ويضنيه يقول له الصوت الذي أصبح صدى:
    {على أي لون ستفضي إلى هدأة في هزيع المواسم
    هل الروح برزخها في الجهات؟!
    أم النبض تمثل فيه الغواية منذ التشظي
    وحتى انهيار الكلام؟!}
    هي مجموعة من الأسئلة لا إجابة لها يتكئ الشاعر هنا على اللون، فهو يمثل له بداية طريق,, على أي لون,, وحين تضيع منه معالم الألوان يفقد كينونته، وأنت أمام إلحاح جارح من الشاعر الفنان الباحث عن الهدوء، وأين سيعثر على الروح التي راحت معالمها وتاهت في مفترق الطرق,, مرة أخرى يعلمإنه يبحث عن النبض، عن إحياء الحرف الميت، يعيد إليه بكارته وطزاجته، يبحث عن التشظي والغواية,, إنها رحلة الحرف المثيرة في عالم لا محدود....................... التشظي والاشتعال كما ترى ينتشر في هذه المقاطع وهو يفسر لنا عنوان القصيدة، إنه يريد أن يشعلها وهي ميتة، يبث فيها الروح وهي هشيم، يخاتلها ولكنها لا تعطيه وجهاً ولا ملامح,, رحلة دائمة بحثاً عن الوجود، ووجود الشاعر في كلماته!!
    وبناء هذه القصيدة لابد أن يستوقفنا، وإعادة القراءة تقفنا على بناء متماسك حتى مع وجود هذه الأصوات الثلاثة التي جاء بها الشاعر فجأة بعد نهاية المقطع الثاني ثم يعود بعدهاإلى المقطعين الثالث والرابع.
    إن جملة { وحتى انهيار الكلام} يستخدمها الشاعر لتفتح كوى جديدة له, وهذه الأصوات الثلاثة تمثل أصداء نفسية للرد على الصوت/ الحرف الذي يلح على الشاعر، فالصوت رقم 1 يعلن:
    {وفي وجعي رغبة في البكاء
    يفاصلها الرفض أن تستريح
    تماطلها هدأة في السماء
    وتجثو على قلق لا يبوح
    وتنمو بها غابة للرجاء
    على غفلة من مداد الجروح}
    هذا صوت مبحوح قتلته الأوجاع والبكاء والقلق والجراح,, يتوق هذا الصوت إلى الراحة، الهدوء، والرجاء، ولكن هيهات,, أراد الشاعر أن يقدم لنا شروخاً نفسية ترجمها الصوت الأول,, وتتبقى المشكلة أن الرجاء موجود والأمل كبير في وسط هذه العتمة أن ينطلق الصوت، أن يأتي الحرف,, الألم العظيم هو الذي يولد الفن العظيم، لقد أثقلته التجارب وامتحنته الخطوب ولكنه لن يتخلى أبداً عن كلماته/ أسراره مهما دفع من ثمن وبذل من عطاء.
    الصوت الثاني أو البوح رقم 2 يصرخ فيه الشاعر:
    (لا وقت للشعر
    لا وقت للنثر
    لا وقت حتى لهذا الهراء المسمى قصيدة!
    لا وقت
    فليعل الضجيج
    وليصدح الشعراء في واد سحيق
    سيمر صبح من بياض الموت يدنو
    لسواد العيش, يرفو
    جبة الشعر العتيقة
    وتضيع في الأسماء أسماء الخرافة والحقيقة!
    وتمور في الأفعال أفعال البداية والنهاية!
    وأنت تدخل في انزلاق الشعر،
    من سم الخياط
    تمر
    تبحث
    عن بقايا الليل في جوف النهار!!
    فأورق بما شئت من تعب أو دم محترق
    واستبح من مساحة صوتك فاكهة للأغاني
    فماذا بوسع القصيدة أن تحتوي من فجيعة؟
    وماذا بوسع الفصاحة أن تمنح البوصلة؟
    رشدها؟
    غيها؟
    أم فجاءة هذا التأرجح بين الغناء وبين النشيد؟}
    يحمل هذا الصدى,, الصوت رقم 2,, شيئاً من التحدي,, صراخ الشاعر يعلو: لا وقت للشعر، وحين يصل إلى الضجيج لابد أن يتحول الشعر الى مجرد كلام عندها نعثر على مفتاح هذه القصيدة سيمر صبح من بياض الموت يدنو فالكلمة حين لا تقول، والمعنى حين لا يبين، نصل إلى الامحاء إلى العدم,,إلى الموت,,إنه المنطقة البيضاء الطاهرة من الشعر، وتصبح المعادلة إذن: لا شعر = موت وفي المقابل فان العيش سواد العيش أي المعاناة = غذاء للشعر وسر التشظي!!, البياض هنا هو العدم والسواد الوجود لأنه انغماس في الحياة ورفض الهروب منها والاضطلاع بدور الكلمة في تغيير الواقع.
    إن الدخول في عالم الشعر له خطره، وفي الوقت نفسه لا حياة للشاعر دون ولوج هذا العالم الأثيري، هو لا يرى حياة له إلا بين الكلمات حيث يضيع في الأسماء والأفعال وانزلاقات الشعر وهو يستخلص الكلمة من وجع الآخرين ويعود إلى المباشرة إلى النصح{ أورق بما شئت,}, لقد أدرك الحقيقة، الفاجعة، إنه دون هذا العناء لن يستطيع العيش,, لابد أن يكون مشدوداً دائماً بين خطي الأمل واليأس، الرغبة والرهبة، الرجاء والضياع, بين فجأءة هذا التأرجح بين الغناء وبين النشيد ,.
    والصوت الثالث يعلن التسليم:
    {دمنا سيد ,, تحتويه النعوت
    نابض بالرؤى,, ناطق في السكوت
    وجهه مثقل,, بنشيج صموت}
    إنه التسليم بحسم المعركة في صالح الشعر,, فالشعر يجري في دمه {دمنا سيد,}, يسكن تحت جلده نابض بالرؤى,, وحتى ملامحه الجسمانية أخذت مظهراً شعرياً، عرف الشعر كيف يغزوها ويترك بصمته عليها فهذا وجهه مثقل,, .
    الشاعر ينتصر للشعر، للون، للحياة، للحقيقة، واللون الأسود يصبح لدى الشاعر معادلاً موضوعياً لمعنى الحياة وألمها في مقابل تفاهتها وعدميتها في اللون الأبيض.
    في المقطع الثالث، يتمثل الشاعر لنا في صورة المثقف الذي يعاني هموم أمته ويحاول المراوغة بين إعلان رؤيته وبين إخفائها، إن ضبابية الرؤية لدى الشاعر هي نوع من الاتكاء على موقف غير صريح من مشاكل أمته ومن قضاياها, هو يرى ويسمع ولكنه يكتنز رؤيته في أعماقه يحاول ترويضها وتقزيمها حتى لتبدو في صورة مستأنسة،إن المعاناة الحقة لديه هي كيف يعثر على الرؤية الصارمة لواقع متجهم, والشعر يأبى النزول من عالمه النبيل الى دنيا ملوثة بالمتناقضات, ينقسم الشاعر على نفسه، فهو يرىأن يعلن رؤيته، ولكنه يصارع الكلمة من أجل اقتناص اللحظة الشعرية الصادقة، ويصارع الواقع الذي يفرض عليه سطوته وقوته فيريدأن ينفلت منه ويعلن شهادته، فلنتأمل المقطع الثالث:
    {لفاتحة في المتاه المجوف، منذ انطفاء المواسم
    حتى اخضرار النشيد،
    تمد لنا صوتك المرتعش،
    خارجاً من رذاذ القصيدة وهي تسافر في رحم الصوت
    والأغنيات البعيدة
    فكيف ترجلت القسمات الصغيرة، موغلة في مدار
    التشكل
    تطوي ظلال المسيرات
    عبر النوافذ
    عبر الصحائف
    عبر القنوط؟
    وكيف امتطت صهوة الخوف
    في غفلة من وجيف التربص,.
    وفي شهقة ذميل السكون؟
    أمن عسل في حلوق السواسن ينهض بوح وخوف؟
    يقايضها سدة في الهباء
    فتطلق تلويحة في العراء!}
    يتساءل الشاعر: كيف تخرج القصيدة أسيرة الخوف والهلع؟! لابد من خروج مشرف لتلك الكلمات التي يضعها الشاعر فوق الورق,, لقد ذهب ألق الشعر وزمان الشعر ولكنه يحاول، يختصر المسافات، ويعاني بحثاً عن,, اخضرار النشيد، حتى لو مر عبر صوتك المرتعش فهذا الرذاذ مداد الكلمات لابدأن يلد شيئاً ويعلن ميلاد حرف جديد، نعم نحن نريد العسل من قبل الخوف والألم,, هل يستطيع شاعرنا ذلك, إنه يعرف تلك الرحلة المضنية بحثاً عن المعنى البكر وسط الظلمة وهو يقبل على دفع,, ثمن الشعر وإعلانه على الآخرين، ولن يقف صامتاً عن البوح.


    أما المقطع الرابع والأخير فهو يمثل,, الحل الذي استراح إليه الشاعر، لابد من المجاهدة من أجل الكملة، لقد قبل الشاعر هنا شروط اللعبة {كأن مراوده الشك تعبر بعد قليل على الجسر/ تدخل حد اليقين} واستكان الشاعر إلى الغناء وراح يصرح بلحنه الأثير:


    {أيا مطر الوجد والمستحيل
    نعانق فيك اشتهاء الرحيل
    نعانق فيك تباريح وجد
    فترحل حزنا ويبقى العويل
    وننزع من شفتيك السؤال
    لنغرسه في دم المستحيل }

    البناء الدرامي في هذه القصيدة يعيد إليها تماسكها، و نظرة فاحصة تؤكد لنا وحدة البناء الهرموني الذي يتصاعد من مقطع إلى آخر بما فيه هذه الأصوات التي تمثل تنويعا على لحن واحد أصر عليه الشاعر منذ باح به في عنوان القصيدة.
    وهذه القصيدة، كذلك، مدخل إلى دراسة شعر عبدالله الصالح، فهي بكائية مركزية يحوم حولها الشاعر ويدور في مناسبات أخرى يكاد يلمس نفس المعاني ولكن في رداء آخر.
    ولعل ظاهرة الأبيض والأسود التي تجسدت في القصيدة السابقة تأخذ أبعادا أخرى هنا في قصيدته {كسرة من عزاء }يقول الشاعر:


    {لا أسمى المسافة بيني وبينك غدرا!!
    لا اسمي المسافة غيرا لبياض!!

    فلمن كل هذا البياض المدجج بالملح، والصمت، واللوعة الحارقة؟!}
    البياض لدى الشاعر هو لغة العماء, اللغة التي لا تقول، والبياض يعني هنا الخواء، العالم الذي يخلو من المعنى، ولم يجد الشاعر في نعيه لأصدقائه الذين رحلوا سوى هذا المعنى الجديد الذي يشكله الشاعر نتيجة التحامه مع الواقع, البياض لديه لحظة لا يستطيع أحد احتمالها لحظة الوجع، البياض المدجج {بالملح والصمت واللوعة الحارقة}، لقد اغتال الشاعر لونا بريئا كنا نحبه وقدمه لنا في صورة أخرى، ومن حق الشاعر أن يعيد تلوين الأشياء وتقديم رؤيته الخاصة ولكنه يتجاسر هنا ويتجرأ ويجرب العبث بأبجديات الكون, اللون الأيض من مفردات الحياة، ولكنه يصبح هنا لون الخواء والعدم في حالة عدم مطاوعة الكتابة له, ويصبح كذلك لون الأسى والوجع حين يعاني الشاعر من أحزان يتعرض لها.
    والهموم الذاتية التي يحملها الشاعر هي هموم المثقفين، بحثه عن المعنى البكر والحرف الجديد يقول في مقطع {يقين الحروف}:

    {بلون عزائي أمد حروفا
    وأوقظ في صمتها كل باب
    يشاكلها في التشظي حفيف
    ويسلمها لليقين غياب }

    يبحث الشاعر عن اشتعال الحرف، عن التجربة الحية التي تلهبه بالشعر، وتوقد في كلماته نور اليقين، إنه ساحر يمد عصاه إلى المعنى الميت، فيوقظه من سباته ويلونه بالواقع ويعلن فيه الوجود, إن التشظي ما يزال رغبة الشاعر يفتقدهاأحيانا، ويبحث عنها, إنه طائر الفينيق الباحث دوما عن اللهب يدخل إلى النيران ليبعث من جديد، هو يبحث عن حالة من الاختراق تخرج من أعماق كلماته المخبوءة ومعانيه الساخنة، هو صراع دائم مع الكلمة يعانيه الشعراء والكتاب ويشعرون به ولكن قد لا يشعر سواهم فيشاركهم همهم الذاتي من أجل الإبداع.
    وقد تأخذ الحروف والكلمات شكلا آخر لدى الشاعر فهي صهيل الخيول ، الصوت الذي يبدأ رحلته المغامرة الجامحة وراء اللغة التي لاتستكين إلى معنى ولا تحدها حروف، ومن هنا فالشاعر قد ينكفىء على نفسه وينعزل عن الآخرين إحساسا منه بعدم الانسجام مع الآخرين فلغته ما تزال بعيدة عنهم وكلماته لا ينفعل بها أولئك الذين لا يفسرونها على الوجه الصحيح


    {شيء من الظن يعلو وجه قافيتي
    ويحتوي نبض تكويني وأسئلتي
    هل كان لون الضحى العذري بيرقه
    أم كان بيرقه إيقاع فاصلتي }

    وهمّ الشاعر البحث عن لغة طازجة, إن كلماته ترفض السكون ومثولها بين يديه يعني موتها وانتهاء دورها، إنه يبحث عن كلمات لا تسكن أبدا، لا تموت أو تنتهي من الاستعمال, إن المعنى الذي يستهلكه الكلام يفتقد ألقه وجدته.
    {كان وهما حرونا,.
    ووقع الخطى الشادرة,.
    ترهل فيها انتظار المجيء
    فأصغى إلى لغة باردة!
    يباغته الزمن المستكين
    ويغمد أشواكه الحاقدة!
    أبدا,.
    لم يكن غير ما كان
    ولكن
    كان هتافا لأغرودة,, لم تجىء!!}
    البحث عن لغة جديدة يأخذ الشاعر إلى متاهات الداخل، هو يتمثل العثور على اللغة الحرف الشارد المباغت الذي يلهث خلفه من مكان إلى آخر, يتوهم العثور عليه بعد انتظار مترهل صورة جديدة للانتظار الموغل في القتامة، فهو مجرد انتظار لا مفاجآت تأتي بعده انتظار للاشيء للذي يأتي ولا يأتي فتكون النتيجة أنه يقبل شيئا من رحلة جديدة ولو كان يسيرا إنها اللغة الباردة ويكاد أن يرضى عنها ولكن فنه لا يريدها، يلفظها، يقتلها، ويغتال برودتها ويبحث من جديد عن معنى طازج غني, كان الهتاف السعي الحثيث عن أغنية لم تجيء!!
    إنها رحلة لا تهدأ يدور الشاعر ويدور كالنحلة التي تبحث عن زهرة جديدة وطعم جديد لتقدم رحيقا جديدا لم يألفه احد, إنه يمسك بتلابيب الحرف الشارد ويشكله ويعتصره في معنى بكر ولكن حين يعيد قراءته يشعر بأنه لم يكتب شيئا، مأساة الشاعر في قوله
    {لماذا الندى يرتحل.
    ويبقى على وجنتيك الذبول؟!}
    والحزن: ظاهرة تتعانق مع الظواهر الأخرى وتتداخل معها, فالشاعر يشعر بالعزلة، ويتألق بالمأساة، فهو يبحث عن الحزن، عن المصير الغامض وكأنه أوديب يمضي إلى مصيره غير عابىء بالمصير، يريد أن يحزن ويدشن للحزن مناحة كبرى تلهيه عن الآخرين وتكفيه عنهم، ففي قصيدته{ هفو }لم يستوقفه الجمال ولكنه كان يرى فيمن رآها:
    {نبع قد نضب حنو تبخر,, رعشة آفلة,, وردة ذابلة ثم بعد ذلك كله هي: سيدة الانتظار الحزين }يبحث الشاعر في تجاعيد وجهها المكدود عن نفسه الحزينة، عن قلبه الموجوع، هو لا يريد منها سوى هذه اللحظة الشاردة، الحبلى بالأسئلة الحزينة التي تتوثب في وجهه، إن امرأة تخلو من الحنو والنبع، ورعشتها آفلة وجمالها ذابل، امرأة لا تصلح للشعر ولكنها لدى عبدالله الصالح سيدة الانتظار الحزين، بحث عنها كثيرا إلى أن وجدها ثم بفعل الظروف تبخرت وعجز عن وصالها, هل التقت السيدة في ذات الشاعر مع كلماته وانصهرت في أعماقه لتصبح معنى شعريا يفتقده الشاعر, هل هي المعاناة التي تجعله يرى نفسه في هذه البائسة التي تخلو من جمال,, حسب زعمه ومع هذا فقد تمناها, لنلاحظ بداية القصيدة التي استهلها الشاعر بقوله:{ كسرة في الفؤاد الحزين/ الحزين,, }، وانتهت ببحثه عن الهطول ولكنه لن يهتدي أبدا إلى مواسم المطر فسوف تظل القصيدة عطشى لديه لأن هطول المطر انتهاء للقافية واكتفاء، وهو لم يعثر بعد على ضالته, وهو يعلن:


    {تيممت بالحزن حتى ارتميت
    على شاطىء مورق بالهموم
    وأقفرت من كل ذنب تتوب
    على ساعديه بقايا الغيوم
    فهزي إليك بجذع يساقط
    رعبا، وينفث بعض السموم }

    هو شاعر تتضوأ كلماته بالأحزان وتشتعل بالأمنيات المستحيلة، لقد أدى الشاعر طقوس الحزن استعد له واستقبله واحتفى به، هو تيمم بالحزن، يدخل إلى عالمه غير خائف ويتشكل به دون هوادة، هو يستعجل الإبحار في عالمه ويبحث عن مرافئه، وانتفت كل أسباب الألم التي يستبقيها الشاعر في أعماقه ويستولدها من جديد, وتكون النتيجة أن الأحزان تلد الرعب وتنفث السموم وهو راض بهذا الحصاد المر,, وثمة شيء يستوقفنا في لغة الشاعر في هذا المقطع، أن الصورة التراثية تنزاح لتخلف مكانها صورا جديدة يؤصل لها الشاعر ويستمد ذلك من شريحة أحزانه الملتاعة, إنها أحزان حقيقية وليست سطحية وقد تركت صداها في لغته, إن سبب أحزانه في رأينا هو الطموح فهو لا يفرح كالآخرين لأنه مهموم بالمعرفة التي تؤرقه والحرف الذي يهجره وطموحه يدفعه إلى القول:


    {أفتش عن حلم تستفيق
    على مقلتيه غصون الكريم }

    إنه إذن حزن جليل يسعى إلى تغيير العالم من حوله، هو وقود الاشتعال الذي يلهث الشاعر وراءه من أول قصيدة قالها حتى آخر بيت له.
    {أيها المنتفون بذاتي
    أفيقوا,.
    ففي الوقت متسع للبكاء
    وفي الحزن متسع للغناء,.}
    والميل إلى الدراما: هو الذي يجعل الشاعر يشكل في قصيدته أصواتا وأصداء أخرى، وكل قصيدة لديه لا تخلو من صوت آخر ومن صدى يتردد معقبا على المعنى الأصلي الذي يأتي في البداية, والدراما خروج بالشعر من الذات إلى عالم الآخرين والبحث عن دور لهم داخل القصيدة, فلم تعد القصيدة هي تلك القدرة على الغناء حتى لو كان الشاعر وحده في الصحراء، وإنما أضاف العصر الجديد إليها حسا واقعيا بالحاجة دائما إلى صوت آخر يشارك في القصيدة ويكون له دور في تشكيلها.
    وفي قصيدة مقطع من {حوارية التوجس,}, نلمح هذه الرغبة عند الشاعر، فهو يبدأ القصيدة بافتتاح والمقطع الثاني بعنوان حوار والثالث: صوت, ويمثل الافتتاح في هذه القصيدة، تقديم الأبطال للعمل الدرامي الشاخص، إنه يعلن موضوعه وقضيته، يقدم لنا أرضية الأحداث قبل أن تبدأ، يقول في الافتتاح:
    {يباغتنا في انبلاج الأصابع هذا التوجس
    ويحرق مبتدأ للمثول
    قبيل الدخول
    إلى سغب العنفوان
    كأن التكلس حتى التخاذل بين النشيد وبين المقول يزوبع ما يتبقى على الصمت من قطرات الحوار:}
    إن العالم الذي يرصده الشاعر في {حوارية التوجس} يقدم لك عناوينه من خلال هذا المفتتح، فهو:
    1 التوجس المباغت الذي يقهرنا ويمنع حركتنا إلى الأمام.
    2 وهو كذلك الجمود والحيرة بين القول مجرد القول والشعر.
    3 وهو أخيرا الزوبعة التي تتبقى من عناصر الحقيقة هو صدى الصمت وبقايا الكلام الذي تقاطر على أدمغتنا.
    هذا التمهيد له وظيفة درامية فهو يختصر القضية ويقدم الشاعر نفسه لنا من البداية إعلانا لبراءته من دمنا، إذا مضينا معه حتى نهاية القصيدة، لم يأت بشعره من أجل أن يسليك، فيقص عليك الحواديت ولم يقل كلماته تزويقا للواقع أو تزييفا للحقيقة، إنه لا يعرف إلا نقل الوقائع بجهامتها، إنه يحدد لك دورا إما أن تقبله وتمضي معه في رحلة قصيدته وإما أن ترفضه، فتتوقف عن القراءة، هو شاعر ذكي مثقف عرف كيف يفيد من قراءته ليضع شكلا دراميا يشحن به قصيدته.
    أما قلب القصيدة وعنوانها الحوار، فأنت أمام شحنة من الأفعال والدهشة الدائمة، دهشة مستمرة لا تزول بفعل الزمان ولكنها تتواصل وتتوالد، وتصل إلى قمة القصيدة, بسؤال يبدو بريئا وساذجا ولكنه ليس كذلك فيقول لك هل لهذه الكلمات البسيطة التي يكتبها من أثر؟ هل تستطيع أن تفعل؟! {أللخطرات الكسيرة نصل يبرعم فوضى الهدوء} وما تزال حيرته تتكرر في كل قصيدة ما بين الشعر واللاشعر!! وهي قضية لن تحسم أبدا,, وأخيرا يأتي الصوت وهو الصدى الذي يأتي في نهاية كل قصيدة وأحيانا في كل مقطع، وهو هنا يعلن:


    {سلاما على مفردات الهباء
    تيبس فيها اخضرار العلاقة
    وأسلمها للمغيب انطفاء
    وأسكنها مفردات الحماقة }

    كل الكلمات إذن حمقاء لأنها لم تقل كل الذي يعتمل في أعماق الشاعر، والشكل الدرامي قد يكون غير واضح المعالم لأن غالبية أشعار عبدالله الصالح فكرية ذات أبعاد متعددة لا تستسلم لحرفية الواقع أو لهواجس النفس وإنما تدور بين هذا وذاك.
    والصورة الشعرية في هذه القصيدة تأتي من الواقع الفكري للشاعر، فهي صور عقلية لا نلتقطتها بسهولة مثل قوله: {يزوبع ما تبقى على الصمت من قطرات الحوار} فالصورة هنا يبذل العقل مجهودا في فهمها، فهي لا تتكىء على الواقع وإنما كونها المحصول الثقافي والقراءة الواعية للشاعر، والشاعر ثقافته أكبر من شعره وتلك مشكلته فلو توافق شعره مع ثقافته لكان له شأن كبير، نعم الشعر حرفة وصنعة ولكنه موهبة قبل كل شيء ولا شك في موهبة الشاعر ولكن الحس العقلي لديه أكبر كثيرا من شعره، الشعر دهشة دائما وبكارة ولكنه ليس كل هذه العلائق, يحتاج الشاعر إلى بعض الوقت حتى يعيد للشعر رونقه ويخفت قليلا من صوته العالي, تبدو الصورة هنا وقد شكلها عقل واع وخبرة جيدة يحسد عليها الشاعر, انظر إلى التشكيل فوق الماء، من منا يستطيع ذلك، الشاعر يمتلك هذه القدرة، فهو يشكل صورته تشكيلا ذهنيا مجردا وحين تنصرف إلى كلمة قطرات باعتبارها مادة عيانية خارجة على سياق المعاني المجردة في الصورة يفاجئنا الشاعر بأنه أزال معالمها المعروفة لنا، فلم يصبح الماء ماء ولا القطرات ماء، وإنما أصبحت قطرات حوار ولم نسمع أبدا أن للحوار قطرات ولكنها صورة دالة تؤكد موهبة الشاعر, ثم ننظر إلى هذه القطرات، كيف تشكلت في زوبعة بعد أن تم تصفيتها أو تقطيرها من الصمت!! الصورة مرهقة، ولكنها لا تخلو من طرافة.
    وانظر إلى صورة أخرى حيث يقول: {يذر الندى ما تبقى على النبع من مائجات الرماد }, ولعلك تجد نوعا من المطابقة بين هذه الصورة وتلك، فالندى يطرد ما يتبقى على النبع من ذرات الرماد .الكتابة صورة عقلية أخرى ترهق ذهن القارىء.
    وهذه صورة أخرى: {فالذي عاشرته المواجع تغفو المواويل بين أنامله مثقلة} تقترب الصورة من عالمنا، فالشاعر قد غادر الهم الشعري إلى حين ويتكلم لغة مثلنا، فهي صورة ل؟أحد البائسين بينما المواويل الحزينة تنام بين أصابعه المكدودة من بؤسه فالمواويل تتألم لألمه وتشقى بسببه, يشكل الشاعر هذه الصورة القريبةإلى حدّما من عالمنا, فيقدم لنا عالما نعرفه وأناسا نراهم حقيقة.
    الصورة الشعرية تعني التشخيص واستخدام مفردات الواقع في إعادة تشكيله من جديد ومن هنا سر فرحتنا بالصورة الجديدة, يبقى على الشاعر أن يحاول تشكيل صورة من مترادفاتنا وألا يهجرنا وينأى بعيدا عنا بصور لاتدور إلا بين كلماته هو ولا تحدث إلا في عقله, عليهأن يخفف العبء عن نفسه ويطرح أثقالها عن الآخرين.
    وبعد فهذه رحلة كانت مع بكائيات الشاعر عبدالله الصالح، نعود لنلتقط أنفاسنا بعد أن بكينا معه وتألمنا لألمه، فهو مفجوع إلى حد المرارة، مثقف إلى حد العزلة، يحيا وحده مع كلماته يمتص رحيقها المشتعل دوما بالأحزان يغوص بها إلى عوالم سحرية لم تخلق بعد، ولكنه سعيد بها يؤثرها على نفسه لا يريد أن نعرفه كشاعر ولكن أن نحيا كلماته.

    21-02-2012 06:14 مساءً

  • صالح الحسن

    أبا عبدالعزيز ، أسعدالله مساءك .
    إني أراك في قصيدتك هذه وفي قصيدتك الآخرى (رسالة من برلين ..) إنسانا آخر غير ما أعرف ، فقد كتبتهما بروحك التي اكتوت بالمعاناة والألم فجاءتا صورة حقيقية للإنسان في شموخة أمام مصاعب الزمان ونكده ؛ فجلت معدنك الأصيل، وظهرت إنسانيتك المرهفة وشخصيتك الحقيقة ، لا تلك الشخصية غير المبالية التي تغلفها بمزاحك التي قد يصل إلى حد التهريج . وإن كنت أرى أن أم عبدالعزيز تستحق أكثر من ذلك الاعتذار...!!
    أعانك الله على معاناتك ، فلقد أظهرت الشاعر الحق فيك ، فيالتيك تستمر على هذا المنوال ، فلرب ضارة نافعة . ودعائي للغالي أحمد بالشفاء العاجل ، وما على الله ذلك بعزيز . دمت بخير .

    21-02-2012 08:06 مساءً

  • صالح الحسن

    أبا عبدالعزيز ، أسعدالله مساءك .
    إني أراك في قصيدتك هذه وفي قصيدتك الآخرى (رسالة من برلين ..) إنسانا آخر غير ما أعرف ، فقد كتبتهما بروحك التي اكتوت بالمعاناة والألم فجاءتا صورة حقيقية للإنسان في شموخة أمام مصاعب الزمان ونكده ؛ فجلت معدنك الأصيل، وظهرت إنسانيتك المرهفة وشخصيتك الحقيقة ، لا تلك الشخصية غير المبالية التي تغلفها بمزاحك التي قد يصل إلى حد التهريج . وإن كنت أرى أن أم عبدالعزيز تستحق أكثر من ذلك الاعتذار...!!
    أعانك الله على معاناتك ، فلقد أظهرت الشاعر الحق فيك ، فيالتيك تستمر على هذا المنوال ، فلرب ضارة نافعة . ودعائي للغالي أحمد بالشفاء العاجل ، وما على الله ذلك بعزيز . دمت بخير .

    22-02-2012 08:06 صباحًا

  • ناصر

    اخي العزيز وشاعرنا الكبير ابوعبدالعزيز لقد كنت شاهدا على ولادة هذه القصيده الرائعه عندما كنا نتجاور في مشفى شهير في المانيا عندما كنت مرافقا مع والدي وانتم كذلك مع ابنكم الحبيب احمد شفاهما الله وجميع مرضى المسلمين ولقد تشرفت بسماع مطلع وابيات القصيدة الاولى وكم كنت في غاية السعاده وفي غاية الاستمتاع بسماع هذه التحفه النادره وبصوتكم الرخيم العذب واسلوبكم الرائع في الإلقاء مما كان له اكبر الأثر في تخفيف معاناتنا مع الغربه ولا غرابة في هذ الامر اذا ماعلمنا ان كاتبها شاعر كبير وقدير بحجم عبدالله الصالح تقبلو مني كل احترام وتقدير والى مزيد من الابداع ياشاعر الابداع محبكم ناصر بن محمد الدوسري*

    22-02-2012 02:06 مساءً

  • س الحربي

    شاعرنا العزيز تبقى مبدعا أينما اتجهت بوصلة شعرك!

    22-02-2012 08:08 مساءً

  • سلطان المجمعة

    ماشاء الله أبو عبدالعزيز أبيات تترجم معنى الحب الحقيقي النابع من صفاء قلبك الوفي ومكانة رفيقة العمر بالنسبة لك كلمات ذات أحاسيس صادقة معبرة
    داعيا الله سبحانه وتعالى أن يشفي أحمد وأن يديم المحبة بينك وبين أم عبدالعزيز
    محبك
    أبو أحمد

    26-02-2012 10:10 مساءً

  • فيصل العواضي

    قصيدة رقيقة معبرة امتلات بالصور الشعرية الصادقة وبسمو العاطفة الانسانية باجمل معانيها ومن مكان كتابتها ينكشف الستار عن مواجيد مغترب شاقها الحنين على البعد الى الوطن والحبيبي وتماهى الاثنان فكانا في هذه القصيدة واحداابدعت ايها الشاعر الجميل ودمت مبدعا

    10-03-2012 08:12 مساءً

جديد المقالات

بواسطة : عبدالعزيز عبدالله البريثن

. آه .. ويح من فقد أمه، ولم يقبلها في ضحاه، أو...


بواسطة : سعد بن فهد السنيدي

. (الوجهاء والأعيان) مصطلح شائع تتداوله الألسن...