• ×

04:42 مساءً , الخميس 18 أبريل 2024

عبدالعزيز عبدالله البريثن
بواسطة  عبدالعزيز عبدالله البريثن

النسخة المطورة

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
.


في كل نسخة جديدة من المنتجات تضاف إيجابيات (مميزات) وتحذف سلبيات (عيوب)؛ وهذا التطوير بمثابة القائد المستمر للتطوير العلمي، حتى أن العلم نفسه عملية تراكمية، إذ يستحيل أن يولد مرة واحدة على يد رجل واحد. في عالم الأجهزة الذكية تظهر النسخ المطورة محاكية في ذلك التطور التقني، وهي بذلك تقود جيلاً جديداً من المجتمع، وتاركة خلفها أجيالاً كانت تظن نفسها – في يوم ما – في القمة الدائمة.


في بدء الخليقة، وحينما كان التعداد السكاني على كوكب الأرض يبلغ أربعة أو ربما ستة أفراد فقط، أخفق ابن آدم (قابيل) في معرفة كيف يدفن أخاه المقتول (هابيل)، فضرب الله المثل، مرسلاً غراباً يكون بمثابة الآية والعضة لمواراة الميت ودفنه تحت التراب. كان ذلك المثل وتلك الآية في بدايات الحياة الإنسانية منذ ملايين السنين، وكانت تلك العبرة إبان البدايات الأولى للتكاثر البشري، حيث فنى أحد العناصر الأساسية التي قاومت انقراض الإنسان كمخلوق نادر آنذاك.


المنطق لا يصدق دائماً، لذلك قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – لو كان الدين بالرأي كان أسفلُ الخفِّ أولَى بالمسحِ من أعلاهُ. وفي المثال الواقعي لما حدث في بدء الخليقة كانت الآية من الله مجرد "غراب" يُعلّم الله فيه الإنسان كيف يدفن أخيه الميت. في العصر الحديث ومع تقدم العلم وتطور التكنولوجيا توقعنا أن تكون الآية القادمة أضخم من الغراب. ولكن هذا اعتقاد خاطئ وتقدير غير صائب، يدل على محدودية العقل البشري، ويؤكد على ضعف الإنسان، إذ جاءت الآية منذ أيام خلت أقل قدراً من الغراب، وكأنه تحدي لكل ما نملكه من علوم ومعارف وأدوات تقنية وأجهزة إلكترونية، إذ أرسل المولى جل في علاه مجرد نسخة جديدة (مطورة) من "كورونا" كفايروس يستحيل مشاهدته بالعين المجردة، ولا حتى تنطبق عليه صفات الكائن الحي.


التحدي قوي، والرسالة واضحة، والامتحان مكشوف. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ تقول الآية يا أيها الناس ولم تقل يا أيها الذين آمنوا! وهي بذلك تبعث نداءً إلى جميع البشر وليس للمؤمنين فقط، وليس لأصحاب العقول فحسب. فهل يستطيع العلم خلق ذباب؟ فايروس "كورونا" آية من آيات الله، ومثال لعظمة الله، ونموذج لقدرة الله. فأين المتفكر؟ وأين المعتبر؟ وأين أولي الألباب (أصحاب العقول) الذين خاطبهم الله في القرآن الكريم أكثر من خمسة عشر مرة؟ اليوم وبسبب "كورونا" صارت المنظمات الدولية مرتبكة، وأصبحت الحكومات مستنفرة، ووسائل الإعلام ليس لها حيلة سوى التطبيل المعتاد حول ما تبذله دولها من جهود لمحاولة الحد من انتشاره وتفشيه، والنتيجة النهائية "لم ينجح أحد" في معرفة السر أو في الكشف عن لقاح مضاد ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفاً﴾.


حتى نهاية شهر مارس – وربما يمتد لأكثر من ذلك – سوف تتعطل جميع الأنشطة الأساسية الحكومية والخاصة، ما يعني أن الدول والمنظمات والشركات سوف تخسر بلايين الدولارات. مُنع الناس من حفلات الأعراس، وتم حضر التجمعات الكبيرة، وذرفت الدمعات بسبب عدم أداء الصلوات جماعة في المساجد. علقت الرحلات الجوية، وتعطلت حركة الملاحة البحرية، كما أغلقت الفنادق والمتنزهات والأسواق التجارية، وأوقفت المباريات، وتم إلغاء المؤتمرات العلمية. كل هذا والنتيجة لم ينجح أحد. خوف وذعر؛ شك وريبة؛ تحرز واستنفار؛ وكل إناء بما فيه ينضح، المستهتر غير مبالي، والمفرط خائف من سوء المنقلب، والمعجب بالغرب مترقب لنتائج أبحاثهم، والمتشائم متجهم، والمسئول وجل، والخطب أكبر، والرب أعظم، ولا أحد يعلم النهاية إلا الله. والأهم من هذا كله لا أحد يعرف الحقيقة إلا الله؛ هل هي دورة كارثية تحدث في كل قرن، سبقها في ذلك الطاعون والكوليرا والجدري ثم الأنفلونزا؛ أم هي مؤامرة فردية أو من لدن جماعة مجهولة المصدر (عصابة) هدفها الربح من وراء تسويق مستلزمات صحية وقائية وأدوية علاجية وإنتاج تطعيم جديد؛ أم أنها حرب بيولوجية ماكرة خططتها دولة أو أكثر لضرب طرف ما ولكن الخطة خرجت عن السيطرة. المؤكد أن الله غالب على أمره، والثابت أن الخطر ينذر كل فرد، ويهدد كل الدول، فهناك كساد محدق، وبطالة متفاقمة، وشركات على حافة الإفلاس.


ربما نصحو يوماً فنجد وباء "كورونا" كالحلم العابر، لكن ما هو القادم من الله؟ هل نعود إلى حالة التكبر والغرور والتوكل على العلم الذي لا يزال عاجزاً عن تفسير ظاهرة النوم الذي نمارسه بشكل يومي ويستحيل أن نستغني عنه، هل استطاعت المعارف تعليل حالة الوفاة التي يهابها الإنسان ويتمنى تفاديها ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾. الحياة مليئة بالتحديات والألغاز، ورغم الكم الهائل من العلوم والمعارف والكتب والدراسات والموسوعات والمكتبات ومعامل الأبحاث والجامعات، ومع الأعداد الهائلة من العلماء والباحثين إلا أن الإنسان بات عاجزاً وفاشلاً في فهم ذاته ومكوناتها ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾.


هواة نظرية المؤامرة سعوا جاهدين لنسج خيوط القضية، من فيلم سينمائي، إلى رواية قديمة، ثم تصريح مؤول، وتفسير مبهم، وتحليل متناقض لا يزيد الموضوع إلا غموضاً. المتفائلون يشيرون إلى أن الأزمة ستنتهي في غضون أيام، والمحبطون يتكلمون بلغة السنوات، والمرجفون في المدينة لا يفتئون في بث الشائعات، والمصير مجهول، والنفق مظلم، ولا أمل إلا في الله. اللهم ردنا إليك رداً جميلاً.


يا صاحب الهم إن الهم منفرج == أبشر بخير فإن الفـارِج الله
اليــأس يَقْطَع أحيانا بصاحِبِه == لا تيـأسَنّ فإن الكـــافي الله
الله يحـدث بعد العُسْر مَيسرة == لا تجـزعنّ فإن الصَّـانِع الله
إذا بُلِيتَ فَثِقْ بالله وارضَ به == إن الذي يَكْشِف البلوى هو الله
والله ما لَك غير اللهِ مِن أحَـدٍ == فَحَسْبُك الله .. في كلٍّ لكَ الله

الإمام الشافعي (رحمه الله)




* جامعة الإمارات العربية المتحدة

 0  0  990


جديد المقالات

بواسطة : عبدالعزيز عبدالله البريثن

. آه .. ويح من فقد أمه، ولم يقبلها في ضحاه، أو...


بواسطة : سعد بن فهد السنيدي

. (الوجهاء والأعيان) مصطلح شائع تتداوله الألسن...