• ×

06:58 مساءً , الخميس 28 مارس 2024

ناصر بن عبد الله الحميضي
بواسطة  ناصر بن عبد الله الحميضي

إخفاء المشتريات رحمة بالفقراء

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
كانوا لا يأكلون في طريق ولا مطعم ولا يظهرون أخبار طعامهم





الفقر لادك الرجال أشد مـن حكـم القصـاص كم من يمين ٍ طايلـة قـل الدراهـم قصهـا


بداية نشير إلى الأسلوب الذي يجري في وقتنا الحاضر حول التصوير والنشر لكثير من تفاصيل حياة الناس .و ما عهدناه في جيل آبائنا وأجدادنا من قبل. نشر ما يجري أولا بأول من أكل وشرب وطعام و شراب ومواقف حتى لم يعد هناك ما يخفى ولم يعد هناك ما يستحى من نشره أو يتورع من كشفه.

ساعد على ذلك توفر وسائل كثيرة طرأت على المجتمع ودخلت حياته حتى صارت جزءا منه .

من تلك المستجدات توفر التقنية وآلات التصوير و مواقع التواصل الاجتماعي و الأجهزة الحديثة مع ضعف كبير في الوعي لدى البعض ، فيتم النشر بلا أدنى حرج ودون مراعاة لسلم وعرف أو اعتبارات اجتماعية ، ودون تمييز بين ما يناسب نشره وما لا يناسب ، حتى أصبحت جدران المنازل أشبه بالزجاج شفاف يكشف ما وراءه و لا يستره ، وذلك الأسلوب الذي استجد في حياتنا ليس له أصل ولا تمتد جذوره في الماضي ولا يخدم عادة حميدة ولا يعزز جانبا إيجابيا بقدر ما يكون سلبيا يكشف عن تسرعنا وعدم رويتنا ، وكأننا لم نستفد من دروس الحكمة التي تملأ صفحات تاريخنا وتراثنا وموروثنا .

لقد كانت الأسر في نجد وغالب وسط الجزيرة العربية لديها بعض العادات و الأساليب والقناعات التي يتعامل أفرادها بها مع بعضهم ، إضافة إلى التقاليد الخاصة والسلوم التي رأوها مفيدة وتحكم العلاقات ، يتبين منها العقل ودوره والهدف وخدمتها للمبادئ الخيرة ، اصطبغت بالرحمة والعطف والرأفة والحرص على جانب الود والحفاظ على جوانب الأخوة ، واعتبار التماسك الاجتماعي مقدم على المصلحة الشخصية والمنفعة الذاتية الخاصة .

هذه الأساليب الحياتية قد تجعلنا نتساءل حولها الآن ، لكنها في حينها تحمل أهدافاً و دلالات عندما نعرفها ونتبين مغزاها نشد على أيديهم ونشيد بها ، لأنها تحمل الطيبة والرفق والرحمة ، وتبعد المجتمع عن المظاهر والتباهي والتفاخر وتجلب لأفراده الإحساس بالتقارب والتساوي وعدم ترفع بعضهم على بعض أو جفاء يؤدي إلى البغضاء ، ولكن من يجهلها لا يعي تماما المقاصد منها وقد يفسرها بظنه تفسيرات وفق رؤيته وبناء على ما يجري حاليا .

ونستعرض هنا بعض ما يجري من عادات وأساليب في المجتمع سابقاً:

ففي مجال الأكل والشرب وتناول الغذاء فإن الجميع لا يمكن أن يأكل في الطريق ، يراه المارة ويرون نوع الطعام معه ، فهذا يندرج ضمن المرفوض وينتقص من يفعله ، بالإضافة إلى ذلك فإنهم لا يتكلمون للآخرين عن مطبخهم وما طبخ فيه ويعتبرون وجبتهم التي تناولوها سرية ، في مقاديرها وكميتها وكل شيء حولها ، فهي في واقع الحال لا تعني أحد .

حتى أن الطفل يقال له ( كلْ وأص ) يعني تناول طعامك واسكت عن السؤال حوله ، ما نوعه وكميته ، حتى أن بعض الأطفال ظن أن اسم نوع من الطعام ( كلوص) بينما العبارة فيها فعل أمر بأن يأكل ويسكت.

ومن العادات أيضا : عدم نقل اللحم خاصة ، وذلك لارتفاع سعره ولندرته ، عدم المرور به بعد شرائه أمام المارة و الدخول به إلى المنزل على مرأى الجميع ، سواء من يجلس في مجالس الطرقات أو من يمر معها ، أو من يقف أمام الدكاكين .

وقد اشترى أحدهم لحما قد وضع على هيئة ( مشكّ ) أو شرائح منظومة في حبل من ليف أو خوص نخل ، و قد أخفاه داخل العباءة ( البشت أو المشلح) ولكن الخيط انقطع في وسط الطريق والجلوس من الرجال يرونه قد سقط منه ، فقال : هذا اللحم ليس لي ، أنا لم أشتر شيئا.

هذه كلها وغيرها الكثير ؛ كانت سائدة في عدد من بلدان وسط الجزيرة ، وعندما نعيد التفكير فيها نجد البعض ممن يعيش اليوم في مدن كل طرقاتها وشوارعها تعج بالمطاعم والمطابخ والناس تجلس في داخلها والرصيف فيه العديد من الوقوف يأكلون ويشربون وقوفاً وجلوسا وفي سياراتهم ، لا تتوافق الصورة الماضية مع صورة اليوم ، ولكن عند استعراض التعليل يتبين ما كان عليه مجتمع الأمس ومن يتضح من نبل ورفعة خلق.

الأطعمة والأغذية وما يعرض منها للبيع على أنواع ، منها الرخيص الذي في متناول الجميع ، مثل الباذنجان والخبز والبطيخ والقمح والشعير والذرة والكراث والبصل والتمر ..الخ

وهناك أطعمة ومواد غذائية غالية الثمن يقل عرضها ولا تتوفر في كل حين ، وقل أن يحصل عليها الفقير إلا في مناسبة أو من هدية وصدقة ، مثل اللحوم والفواكه التي لا تزرع في القرية بل تجلب هدية تسمى ( وصلا ) مع المسافرين الذين يفدون من المدن البعيدة ويكون لمثل تلك الفواكه ندرة ، كالبرتقال والموز والتفاح على سبيل المثال.

أما بالنسبة للسلع والمواد المتوفرة وذات الثمن القليل فإنهم لا يرون حرجا في شرائها ونقلها والمرور بها مكشوفة والكل يراها كما تعرض بكميات وأكوام أمام الدكاكين والمزارع ، فمن الطبيعي أن يقابل المارة شخص يحمل فوق كتفه بطيخة ، أو معه اترج ( ترنج) أو صرة من بصل وكراث أو قد اشترى باذنجان وقرعا .

ومثل هذه المشتريات الغذائية تأتي مشتريات أخرى ليست غذائية بل لوازم للأسرة كالقماش والصابون والأواني ..الخ ، فهذه لا يخفونها وقت الشراء ولا أثناء حملها .

بينما السلع والبضائع والمواد النادرة الغالية يخفونها ، شراء ونقلا واستخداما وتناولا .

وهذا يجعلنا نتساءل حول الحرج الذي يجعل الناس لا يظهرون مشتريات كاللحم و المواد الغذائية النادر وجودها .ولكن يتبين من قول بعضهم أن وراء هذه العادات أو الأسلوب والتصرف رغبة في عدم جرح مشاعر الفقراء ومغايرتهم أو يظهر أطفال الأغنياء بصورة تقودهم للتعالي وربما الحسد والبغضاء ، من هنا نشأة هذه الظاهرة ، ثم صارت عادة حتى بعد توفرها فيما بعد ، فالناس يراعون مشاعر جيرانهم ، يهتمون لهمهم ويفرحون لفرحهم ، وتغمرهم السعادة عندما يرون أهل بلدتهم سعداء ، لكن قلة ذات اليد التي تعم الجميع جعلت مشترياتهم من الغذاء قليلة لا تكاد تكفيهم ، فليس لديهم فائض يعطون الآخرين كلما اشتروا شيئا ، وهذا ليس بخلا ولكنها الحاجة وكثرة من يحتاج.

وقد ذكر بعضهم أن فئات من المجتمع ممن زاد فقرهم و انعدم دخلهم لا يتناولون اللحوم إلا في مناسبة كالزواج أو دعوة فيها تكريم ضيف تسمى : ضيفة أو وليمة ، أو في عيد الأضحى من كل عام ، مالم يوصلوا بهدية أو صدقة ، ولاشك أن شعورهم بالحرمان مؤثر وتتم مراعاته من البقية خاصة ونحن نعلم أن أفراد مجتمع القرية يحتضنهم و يجللهم شعور واحد ويضمهم إحساس ببعضهم ، فرأوا والحالة تلك كأقل واجب يتعاملون به أن لا يكسروا خاطر الفقير وهو يراهم يشترون ما تشتهيه نفسه ولا يعطى منه .

وأما طريقة بيع اللحم مثلا ، فإن القصاب أو الجزار يعقل الجمل أو البقرة و الثور في طرف من القرية خارج البنيان قريبا من بعض البساتين في الغالب ، وذلك في المساء فيعلم أهل البلد أن هناك لحما سيعرض للبيع في فجر يوم غد ، فيتوافد الراغبون في الشراء بعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس ، والجزار يجهزه لهم بحسب الرغبة : وزنة ، أو نصف وزنة أو رأس أو من البطن والكبد ..الخ

فيضع المشتري ما اشتراه من لحم في خيط ينظمه فيه كما تنظم خرز القلادة في الخيط ، ثم يعلقه في يده كالمسبحة ، مغطى بالمشلح البشت ( العباءة ) ، وبعد توفر الورق الذي يؤخذ من بقايا أكياس الاسمنت ، صار الجزار يلفه لهم في أوراق وقد يطلب المشتري من الجزار نفسه أن يوصلها إلى المنزل ، يحبون أن لا يعلم أنهم اشتروا لحماً.

ولا يتمايز أفراد المجتمع في جيل الأمس فلا الغني يظهر بمظهر الغني ولا الفقير يشعر بأن هناك من يتعالى عليه ويفخر ، حتى في اللباس والمظهر الخارجي لا تكاد تفرق بينهم ، وإذا نظرنا إلى الدور والمنازل قل أن نجد بينها تمايزا ، ذلك لأنها بيوت تم توارثها أجيال بعد أجيال وتقسمت عدة مرات حتى أصبحت في مستوى متقارب ، لهذا فالقواسم المشتركة بين الأفراد كثيرة والفوارق إن وجدت فهي قليلة جدا ، وكلما قلت الفوارق في أي مجتمع شعر بالانسجام والارتياح وسادت روح الألفة.



وما أقسى الفقر و الحاجة ولأنهم جربوا ذلك صاروا يدارون ويرحمون قلوب المساكين ويرفقون بهم ، و هكذا تعود الناس بأن لا يكون همهم في حديث المجالس تفاصيل حياتهم الخاصة أو شبه الخاصة أو التي لا تعني الآخرين من قريب أو بعيد و قد تجرح من خلال المقارنة قلوب المساكين والفقراء.






يقول الشاعر بكر السناني من قصيدة حول الفقر :



الفقر لادك الرجال أشد مـن حكـم القصـاص كم من يمين ٍ طايلـة قـل الدراهـم قصهـا
يثني عزوم أهل الوفاء ويصير للعزم امتصاص عزيمة الوافي كذا من غـير حـق امتصهـا




ويقول الشاعر طلال المسيمير أبيات حول الفقر وما يتسبب فيه من حاجة وضيق ، كما يشير إلى أن الفقر والحاجة لا تمنع الكريم من البذل بما يتوفر لديه لأنه يقدر حاجة الآخرين ومعاناهم .

يقول في القصيدة :




يا فقر قل لي وش تبي من ورانا زود على فقر الدراهم فقر دم

ما حاشت ايدانا غدى به عطانا تبذل ولا نحسب يدينا عطت كم

ولا به رصيد عندنا من بدانا الا الفعول الطيبة وخشية الذم

ولو ان تسلف للغداء مع عشانا نصبر ولو أحوالنا كلها هم

والضيف ليا منه لفانا وجانا نفرح ويبشر بالكرامة ويكرم

بالدين والا بالسلف من حدانا ويروح مبسوطٍ وبالذكر نغنم

في عيالنا نزرع عوايد ابانا نبقى ونحيا ما بقينا ونسلم

يا فقر لو يظلم علينا سمانا رجالنا بالجود والطيب يهتم

البخل ينبذ ما يجي في نحانا والجود نسعى له وبالخير يقدم

يا فقر لو با الجور همك وطانا وهاماتنا ما تنثني لك نكرم

نشوم عن فعل الردا والهوانا ونروم لأفعال تنومس بني عم

وليا منحنا الوقت منه خذانا الطيب والشيمة ومع الحزم نحلم

يا فقر بالله لا تزود عنانا أرحل لعل من الغنى الحال ينعم

مدامنا بالعمرو نمشي أخطانا وليا رحلنا عندك الأرض به عم

 0  0  1.3K


جديد المقالات

بواسطة : سعد بن فهد السنيدي

. (الوجهاء والأعيان) مصطلح شائع تتداوله الألسن...


بواسطة : عبدالله عبدالرحمن الغيهب

. اليوم ١٨ ديسمبر يوافق اليوم العالمي للغة...