• ×

02:48 مساءً , الجمعة 10 مايو 2024

مدرستان في الإدارة وللواسطة كلام آخر

 



مدرستان في الإدارة وللواسطة كلام آخر


تتميز طبيعة المجتمع السعودي بأشياء حسنة كُثر، من بينها الترابط، سواء على مستوى القربي أو القبلي أو المناطقي، بل قد يمتد الترابط ليكون أكثر عمقاً ليبلغ مستوى "الإخاء" كما هو الحال بين بعض الجيران أو الأقارب أو الأصدقاء. لقد أصّل هذا الترابط وبقوة وجود خاصية الشفاعة أو ما يعبر عنه شعبياً بحرف "الواو" للدلالة على الوساطة (الواسطة) داخل المصالح أو القطاعات الحكومية، إذ يمكن أن يدلل على قوة وجود هذه الخاصية امتدادها - أحياناً لتطول القطاع الخاص الذي يتوسم فيه الحيادية والبعد عن مثل هذه الموضوعات.


وعلى الرغم من أن الواسطة نابعة من شيء ايجابي والذي هو التواصل المبني على صلة الرحم أو القرابة أو التأخي، إلا أن نتائجها في كثير من الأحيان تكون سالبة، أو تعبر عن وضع غير صحي في قطاعات العمل والانتائج داخل الدولة. بل هي الواسطة تُعبر في الوقت نفسه وببساطة عن تقديم المصلحة الذاتية للمسئول على أي مصلحة أخرى بما في ذلك مصلحة الوطن. وهنا يكون أثرها أكثر سلباً أو سوءاً وربما فساداً قد يطول أول ما يطول ذات المسئول ونزاهته واخلاصه، ذلك أن المسئول شخص حُمّل الأمانة وتحمل المسئولية، فالجميع ينتظر منه العطاء المبني على هاتين الخاصيتين (الأمانة والمسئولية) فضلا عن الحيادية . وتأسيساً على ذلك، يكون الإفراط في الجانب الذاتي، وتغليب العاطفة على المصلحة العامة، تفريط في تلك الخصائص معاً.


والحق أن للعاطفة بُعد وامتداد في عمق الإنسان يصعب حصره أو قياسه، مما يحول في كثير من الأحيان دون الوقوع في مزالقه أو هفواته، ولكن كما يقول شوقي: "فقوم النفس بالأخلاق تستقم". فالقضاء تهدده العاطفة ولو وقع القاضي في عاطفته وجنح نحو الواسطة لمال ميزان العدل. والباحث ينتظر منه الموضوعية، ولو انحرف باتجاه الذاتية لجاءت نتائج بحثه غير صادقة وعديمة الفائدة. وكذلك المسئول لو غلبته العاطفة ونحى باتجاه المجاملة لشكك في أمانته ووطنيته.


قد يتفق الكثير على مثل هذا الطرح، ولكن الواقع يشير إلى وقوع كثير من المسئولين في قضية المجاملة، وتقديم العاطفة سواء كان ذلك بقصد (وهذا في غاية السوء والعياذ بالله) أو بدون قصد (وهذا أمر بين المسئول وبين خالقه)، وكلاهما عيب في الإدارة والسلوك وعلى كلا الحالين (بقصد أو بدون قصد) لن يسلم المسئول من لوم وعتب الناس، بل قد ينبغي محاسبته لاسيما إذا كان هناك ضرر وقع شره على آخرين أو على المصلحة العامة. على أن هناك من يرى أن التمادي في الذاتية كفساد إداري ربما يمتد عدواه إلى الوقوع في الفساد المالي وفي مثل هذا وقعت الكثير من الكوارث.


ولشيوع أمر الواسطة واستشرائها في المجتمع السعودي، ولظهور مضارها الكثيرة سواء على أفراد (ضحايا) أو على المصلحة العامة (الوطن ومؤسساته)، كان لابد من الاشادة بالمدارس التي سلمت من ذلك المزلق، وضربت أروع المثل في تغليب الموضوعية، وتقديم المصحلة العامة على أي مصلحة أخرى، مُظهرة الحس الوطني الحقيقي الذي بات في هذا المجال تحديداً شبه مفقود. لقد كان هناك نموذجين للإدارة المثالية أو ما يمكن أن نقول عنه الإدارة الموضوعية التي حيدت الذاتية أو حتى حاولت الابتعاد عنها. المدرسة الأولى هي معالي الدكتور محمد بن عبدالرحمن الطويل الذي كان مديراً لمعهد الإدارة العامة من عام 1978م وحتى عام 1995م. أما الثانية فهي مدرسة المهندس خالد بن عبدالله البواردي المدير العام لمصلحة المياة والصرف الصحي بمنطقة الرياض.


ولأن الكتابة هي الأخرى لم تسلم من داء الذاتية، فلعلي أستحضر ما كتبته يوماً لوزير جديد من كلام ودي ولكنه موضوعي أو هكذا رأيته إذ كان الغاية من الرسالة التحميس ولفت الانتباه إلى ما ينبغي الوقوف عليه. أتذكر أن بين ما كتبت ما نصه: "لم أكتب هذه الرسالة لتهنئتك فالتهنئة وقتها بعد أربع سنوات إن شاء الله ... ". اليوم وأنا أكتب عن هاتين المدرستين الإداريتين بعد أن ترجل كل منهما عن منصبه، فأنا أكتب منزهاً عن الهوى دون مجاملة، قاصداً وجه الحقيقة دون تزييف، عازماً أن أقدم دوري في تقديم شهادة حق تؤخذ منها ويضاف إليها ما يعيننا دوماً على صنع المستقبل، وأترك موضوعيتي لحكم القارئ.

بقلم د / عبدالعزيز بن عبدالله البريثن

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
admincp  1.2K